مقدمه عن الكاتب :
يحيى الزنداني، كاتب يمني مستقل وناشط حقوقي، يعيش حاليًا في أستراليا. منذ عام 2015، بدأ يحيى رحلة مليئة بالتحديات، حيث اضطر للنزوح بسبب الحرب والاضطرابات في بلده تاره وبعدها مرات عديده للنجاه بحياته من بلد إلى أخرى .
استقر بيحيى المطاف في مدينة بيرث، والتي كانت حلمًا يراوده منذ طفولته. على مدى أكثر من سبع سنوات، كرّس يحيى جهوده للدفاع عن حقوق الإنسان، خاصة حقوق المجتمع الكويري ، حيث كان عمله في هذا المجال يتخذ شكلا حتى في كتاباته، التي يعكس فيها يحيى تجاربه الشخصية ونضاله من أجل العدالة والمساواة، ساعيًا إلى إلهام الآخرين وتحفيزهم على مواصلة النضال ضد التمييز والعنف تجاه الأقليات
.
كانت رحلتي من اليمن إلى أستراليا طويلة جداً، عبرت فيها بحاراً وقطعت أميالاً، تعديت فيها جغرافيات ومساحات ذاتي المنغلقة. سقط مني في طريقي إلى هنا ذكريات، وأحباب، ومعهم بعض الأجزاء المنهكة مني، لكني أنقذت ما استطاعت يداي المرتعشتان أن تمسك به! حتى مع ذلك، كنت أنظر بحسرة إلى ما فقدته. شددت قبضتي ليهترئ حتى ما فيها.
أنظر إليه الآن وأحاول تقبله بشكله الجديد المختلف عن السابق، لأتذكر أنه ربما كان صحيحاً ما يقال: إنك تولد من جديد مع كل انتقال. وحتى مع ذلك، لا زلت أسأل نفسي: هل كان هذا هروباً للنجاة، أم توقاً لحياة جديدة؟
أحاول التعرف على كل ما كنت أظن أنه يخصني. تغيرت وتغير ما حولي، وألوانه تضيء بشكل مؤذٍ للعين. ربما كان ذلك بسبب عدم قدرتي على الرؤية في الظلام الدامس من تلك البقعة الجغرافية الموبوءة بالكراهية. وصولي إلى الضوء في آخر النفق يحتم على حواسي البشرية أن تحتاج وقتاً أكثر لتعتاد على هذه المدخلات الجديدة.
الآن هنا، لا أعلم ما هو الطبيعي، لأن جسدي اعتاد على شيء آخر وأصبح يتقبله أكثر. اعتاد جسدي منذ خلقت من رحم أمي الصغير ذو العيب الخلقي على التعود على المساحات الضيقة والولادة قبل أن أصبح جاهزاً للحياة. وهنا، حولي كون متسع يبهرني بالاحتمالات والفرص اللانهائية لمن أنا وما قد أكون.
أستراليا بلدي الآن، أستطيع بها أن أصبح ما أريد، لكني لا زلت أحاول إعادة اكتشاف نفسي. نعم، أحتاج بعض الوقت ويجب أن أستسلم للريبة بداخلي.
أسئلتي وهواجسي هذه ليست من منطلق سوداوي أبداً، لكنها آتية من استفسارات طفل أعيدت الحياة لروح الاستكشاف بداخله. يحيى الصغير كان يقضي أغلب يومه يتخيل ويسرح في مستقبله، ليحاول أن يتصور حياته القادمة لأنها كانت منفذه الوحيد.
الولادة من رحم المعاناة؟ سمعتها كثيراً، لكن رهبتها لم تتخلل دواخلي حتى وصلت. لم أملك من قبل استشعار جلال قدرة البشر على أن يعيشوا أحراراً، وأن تصدأ وتهترئ جميع الأصفاد التي قيدتهم لعقد من الزمن. بعضها لم يكن يُرى ولا تستطيع لمسه، أنت فقط من تشعر به بداخلك، أنك سجين ذاتك ولا تملك مفتاح إطلاق سراحك.
أنا بخير وسعيد، وأشعر أن الحياة تحتضنني لأول مرة. أشعر بالانتماء، وصلت إلى الوطن الذي لطالما حلمت به.
أحصي إنجازاتي الصغيرة الآن، أعلم أنها هي التي تصنع كل الفرق، لا تلك الألقاب البراقة التي تضعها قبل اسمك. ولا أستهين برحلات الآخرين، لكني أيقنت جيداً أن الطريق يبدأ هنا، وأن جميع ما سبق كان بحثاً عن الطريق الصحيح. أكتب هذا لكل من ينتظر طوق النجاة من أصدقائنا المختلفين وحتى الغرباء… لا تمسكوا بشدة، أرخوا قبضتكم واستمتعوا بالرحلة ولا داعي للعجلة أبداً.
تلمسوا سعادتكم بتلك التفاصيل الصغيرة: طفلة ذات جديلة حمراء تضحك وهي تجري خلف والدها، نفحات الريح الباردة بعد ليلة ماطرة، وشمس الغروب وهي تودعنا كل يوم مع آخر شعاع يطمئننا أنها عائدة غداً لا محالة.
تحياتي
يحيى الزنداني